في يوليو 2023، وخلال الاجتماع الثمانين للجنة حماية البيئة البحرية (MEPC 80) التابعة للمنظمة البحرية الدولية (IMO)، كشفت اللجنة، المسؤولة عن وضع السياسات البيئية لقطاع النقل البحري العالمي، عن استراتيجيتها المعدّلة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، بهدف توجيه القطاع البحري نحو تحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050 تقريبا. وبالنسبة لقطاع يساهم بحوالي 3٪ من إجمالي الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة، فقد شكّل ذلك أول إشارة واضحة إلى اقتراب نهاية عصر الانبعاثات الكربونية غير المنظّمة في القطاع البحري، كما اعتُبر بمثابة خطوة تاريخية نحو مستقبل أكثر استدامة للقطاع.
انتقادات علنيّة
ومع ذلك، فقد ظهر في الآونة الأخيرة بعض التذمر والاعتراضات وحتى الانتقادات المباشرة تجاه إطار العمل الذي أقرّته المنظمة البحرية الدولية للوصول إلى صافي انبعاثات صفري (IMO Net Zero Framework)، من بينها موقف وزارة الخارجية الأمريكية التي وصفت الإطار بأنه بمثابة ضريبة كربون عالمية واتفاق بيئي يحمّل الولايات المتحدة أعباء غير عادلة وغير مبرّرة، ويضرّ بمصالح الشعب الأمريكي.
ومؤخرا، في سبتمبر الماضي، وجّه عددٌ من ملاّك السفن اليونانيين، المعروفين منذ زمن طويل بتوجّهاتهم التقليدية في الصناعة، انتقادات علنية لهذا الإطار، واصفين إياه بأنه غير واقعي ومنفصل عن الواقع التجاري للتجارة العالمية.
في حين يمكن توقّع مثل هذه المواقف من الولايات المتحدة، التي تمتلك، بالمفارقة، أقل من 0.5٪ من أسطول السفن التجارية العالمي، فإن صدور مثل هذه التعليقات من ملاّك السفن اليونانيين، الذين يمتلكون 20٪ من الأسطول التجاري العالمي، يثير قلقا أكبر لدى المراقبين. فأين تكمن المشكلة الحقيقية إذا؟
ما هو إطار العمل الخاص بصافي الانبعاثات الصفري؟
باعتبارها إحدى الوكالات التابعة للأمم المتحدة، تقوم المنظمة البحرية الدولية بسنّ القوانين المنظِّمة للنقل البحري الدولي. وقد شكّلت استراتيجيتها لعام 2023 نقطة تحول في القطاع البحري، حيث رفعت هدفها السابق لعام 2018، المتمثل في خفض الانبعاثات بنسبة 50٪ بحلول 2050، إلى الالتزام بتحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول منتصف القرن.
بهدف الانتقال من الوعود النظرية إلى التطبيق العملي، قامت المنظمة البحرية الدولية بتطوير إطار العمل الخاص بصافي الانبعاثات الصفري، وهو نظام عالمي لمساءلة الجهات المسؤولة عن انبعاثات الكربون الناتجة عن القطاع البحري.
يجمع الإطار بين معايير خفض الانبعاثات، وتقييم دورة حياة الوقود، والعنصر الأكثر جدلا، آلية تسعير الكربون. إذ يجب على السفن التي تتجاوز مستويات الانبعاثات المنصوص عليها دفع مساهمات لصندوق المناخ، بينما يمكن للسفن التي تحقق أداء متفوقا على الأهداف المحددة أن تحصل على أرصدة تعويضية.
يعتمد الإطار على منهجية من البئر إلى الخزان (Well-to-Wake)، التي تقيس الانبعاثات الناتجة عن دورة الوقود بأكملها، بدءا من الإنتاج والنقل وصولا إلى الاستخدام. ومن المقرر أن يبدأ التنفيذ بحلول عام 2027، مع التركيز أولا على السفن الضخمة العابرة للمحيطات، والتي تنتج أكبر قدر من الانبعاثات.ويشير مؤيدو الإطار إلى أنه يوفّر خريطة طريق للتعامل العادل مع جميع الأطراف، ويجعل التنبؤ بمستقبل الانبعاثات في القطاع البحري أمرا ممكنا، فضلا عن كونه نظاما تشريعيا يتيح فرض المساءلة القانونية على قطاع مجزأ كان يعتمد لفترة طويلة على الالتزامات الطوعية.
أهداف الخطة
يرى مؤيدو إطار العمل الصادر عن المنظمة البحرية الدولية، أن التنسيق العالمي هو السبيل الوحيد لتحقيق تغييرات فعالة. فمن خلال وضع أهداف وعقوبات موحّدة، يسهم هذا النظام في الحد من تباين اللوائح، ويمنع ظهور الفجوات التنظيمية التي قد تنشأ عندما تعتمد بعض الدول معايير صارمة بينما تتغاضى دول أخرى عن ذلك.
كما يرسل هذا النظام رسالة قوية لملاك السفن والممولين وموردي الوقود، مفادها أن عصر الوقود الرخيص والمُلوّث قد شارف على نهايته. حيث إنّ وجود لوائح شفافة ومتسقة يمنح المستثمرين الثقة لدعم الوقود الجديد مثل الأمونيا الخضراء أو الإيثانول الأخضر، مع ضمان عدم تعرضهم لمنافسة غير عادلة من أطراف تتجاهل هذه القواعد.
باختصار، يرى المؤيدون أن إطار العمل الخاص بصافي الانبعاثات الصفري ليس عقابا، بل هو سياسة تأمين طويلة المدى تحمي المكانة المركزية للصناعة البحرية في عالم منخفض الكربون.
لماذا يعارضه بعض ملاك السفن؟
أصبح ملاك السفن اليونانيون، الذين يسيطرون على نحو 20٪ من الأسطول التجاري العالمي، من أبرز المنتقدين للخطة بشكل صريح. ولا تكمن مخاوفهم في الهدف ذاته، إذ أنّ معظمهم لا يشككون في ضرورة إزالة الكربون، بل في سرعة ومدى واقعية الخطة المطروحة.
حيث يشير هؤلاء إلى أن الوقود الأنظف لا يزال مرتفع التكلفة، كما أنّ توفره محدود جدا، وإنّ فرض رسوم الكربون قبل توفر البدائل بشكل كاف قد يُخرج الشركات الأصغر من السوق. ومن وجهة نظرهم، فإنّ المنظمة البحرية الدولية تطلب من القطاع أن يقفز قبل بناء الجسر.
كما يلفت ملاك السفن اليونانيون الانتباه إلى مسألة العدالة. حيث تعتمد العديد من الاقتصادات النامية على النقل البحري المنخفض التكلفة للحفاظ على تجارتها. وإذا ارتفعت تكاليف النقل البحري بشكل كبير نتيجة تسعير الكربون، فقد يؤثر ذلك بشدة على الدول الفقيرة، خصوصا تلك البعيدة عن الأسواق الكبرى.
وما لم يُستخدم صندوق الكربون المقترح بشفافية لمساعدة هذه الدول، فإن هذا الإطار قد يؤدي إلى توسيع الفجوات العالمية بدلا من تضييقها.
بين الطموح والواقع
تسير خطة المنظمة البحرية الدولية في مساحة حرجة بين الطموح المناخي والواقع التجاري. فالتقنيات اللازمة لتحقيق إزالة الكربون بشكل كامل، من الوقود الأخضر إلى البنية التحتية العالمية للتزويد بالوقود، لا تزال في مراحلها الأولى. والتحدي الحقيقي لا يكمن في النية، بل في قدرة الصناعة على التنفيذ الفعّال للخطّة المطروحة.
يجب أن يجمع الإطار بين التنظيم والواقعية لكي يتمكن من النجاح. حيث إنّه يحتاج إلى آليات مالية قوية، وتوزيع عادل لعائدات الكربون، بالإضافة إلى حوافز واضحة للمبادرين الأوائل. وبدون هذه العناصر، يواجه المشروع خطر التحوّل إلى إنجاز شكلي يؤدي إلى تفاقم الاستياء بدلا من تحقيق التقدم الفعلي.
المسار المستقبلي
على الرغم من احتجاج بعض الجهات السياسية والتجارية، هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، وهي أنه لا يمكن لقطاع النقل البحري العالمي تأجيل انتقاله نحو الطاقة النظيفة إلى الأبد. فمع مرور أكثر من 80٪ من التجارة العالمية عبر البحار، فإن الانبعاثات الناتجة عن هذا القطاع كبيرة جدا بحيث لا يمكن تجاهلها.
لا يقتصر الجدل بشأن إطار العمل الخاص بصافي الانبعاثات الصفري الذي أقرته المنظمة البحرية الدولية على مسألة الكربون فحسب، بل يتعلق بمن يتحمل التكلفة، ومن يستفيد من الفرص، ومن يقود عملية التحول.
قد لا تمتلك الولايات المتحدة عددا كبيرا من السفن العاملة في النقل البحري التجاري، لكنها تمتلك بلا شك العديد من الآراء المؤثرة. أما ملاك السفن اليونانيون، فقد لا يرحبون بهذه القوانين، لكنهم يدركون في النهاية أن التغيير أمر لا مفر منه. وفي نهاية المطاف، تكمن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها في الحاجة إلى طموح جريء يتناسب مع القدرة على التطبيق الواقعي.
سواء جاءت الانتقادات المعارضة لخطة IMO Net Zero من الكونغرس الأميركي أو من ملّاك السفن اليونانيين، فإن موجة التغيير قد بدأت بالفعل. والسؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه الآن، هو ما إذا كان القطاع البحري سيتعلم الإبحار مع هذا التيار أو سيواصل الإبحار عكسه.