بعد فترة من الاستقرار التي امتدت لخمسة عقود، وجد القطاع البحري نفسه بمواجهة واقع جديد مع بروز التحالفات التجارية الإقليمية والشركات الصينية العملاقة ونمو سفن النقل البحري التي تبحر على مسافة قصيرة، حيث أن كل هذه التغيرات من شأنها أن تسهم في إعادة تشكيل المشهد البحري العالمي.

في حديث لهيئة التصنيف النرويجية DNV، رسم الدكتور Martin Stopford، الخبير الاقتصادي البحري الشهير ومؤلف كتاب "الاقتصاد البحري المؤثر"، صورة لقطاع بحري متطور وصل إلى نقطة تحول جوهرية. إذ توقع Stopford مستقبلًا يتحول فيه التركيز بعيدًا عن السفن الضخمة التي تبحر مسافات كبيرة، مستندًا إلى زيادة في استخدام السفن التي تبحر على مسافات أقصر، مما يساعد على التأقلم مع كافة التغيرات التي تطرأ على هذا القطاع وضمان سرعة التكامل الإقليمي وتسليم البضائع في وقتها المحدد.

وفي هذا الإطار، قال Stopford:" وما نعنيه بتسليم الحاويات في الوقت المحدد، هو اعتماد ما فعلته أمازون في عمليات تسليم طرودها، ما سيجعل عمليات تسليم الحاويات لدينا فعالة. إذ سيكون هذا التحول مدفوعًا بالتقدم في تكنولوجيا المعلومات، المستوحاة من الابتكارات التي تستخدمها شركة Uber لخدمات نقل الركاب."

وأضاف قائلًا: "أصبحت أماكن مثل بحر الشمال مناطق تجارية جديدة، وأعتقد ايضًا أن الدول الآسيوية قد تستفيد كثيرًا من شبكات السفن الكهربائية الصغيرة والسريعة والمتكاملة التي تستخدم النوع نفسه من تكنولوجيا المعلومات التي تستخدمها Uber لحجز سيارة أجرة لشخصٍ بجانب المطعم الذي يتواجد فيه، حيث ان هذه التكنولوجيا لم تكن متوفرة قبل 10 سنوات."

كما يمكن أن تكون طبيعة قطاع النقل البحري المجزأة، التي يراها البعض على أنها نقطة ضعف هو ما سيساعد على إنقاذ هذا القطاع وتطوره في هذا العصر الجديد. إذ قال Stopford، معلقًا على الموضوع: "من إحدى الأمور التي يمكن أن يتكيف قطاع النقل البحري معها هو حجم أسطول الشركة، بحيث أنه حوالي 13,000 من بين 26,000 شركة نقل بحري الآن تملك سفينة واحدة فقط، ولكنهم ملاك سفن حقيقيون. وأنا أنظر إلى هذا الأمر على أنه نقطة قوة وليس نقطة ضعف."

وسلط Stopford الضوء على إمكانيات الشركات الصغيرة التي تمتلك سفينة واحدة والتي يستخدم مشغلوها الهواتف المحمولة ويملكون مهارات متخصصة في مجال التكنولوجيا، التي يمكنها التنافس مع الشركات الكبرى، وذلك من خلال علاقتها الوثيقة مع ملاك البضائع، بحيث أن قدرتها على التكيف بسرعة مع التغييرات في هذا القطاع وانتهاز الفرص المناسبة يمكن أن تعزز مكانتها في أسواق القطاع البحري الديناميكية. وهنا تساءل Stopford: "من يقول أنه لا يمكن لرجل لديه هاتف ذكي ومجموعة من المساعدين الجيدين تشغيل أسطول صغير من السفن بإحكام؟ خاصة ما إذا كان متطلعًا ومتمكنًا باستخدام التكنولوجيا؟"

اقرأ أيضاً: برنامج تقرير فحص السفن SIRE 2.0: ثورة في السلامة البحرية والامتثال البيئي

وأضاف قائلًا:" تتعلق الكثير من القرارات المهمة بقدرة شخص ما على التواصل مع شخص آخر، وهكذا يتم الاتفاق على صفقة نقل معينة. من ثم تأتي قدرة مالك السفينة على التواصل مع ملاك البضائع."

كما شدد Stopford على قدرة القطاع البحري الاستثنائية على التكيف مع كافة التغييرات على مر التاريخ، مشيرًا إلى تعطُل قناة السويس في عام 1956 كمثال على تكيف القطاع مع هذه المشكلة من خلال إجراء تعديلات في السوق واعتماد طرق جديدة للإبحار. وفي هذا الصدد قال Stopford: "توافقت الآراء في عام 1956 على أنه لن يعاد فتح القناة على فترة ثلاث أو أربع سنوات على الأقل، والحقيقة أنهم قاموا بإخلاء جميع السفن في غضون بضعة أشهر...وهذا يظهر مدى صعوبة التنبؤ بهذه الأشياء." وبالمثل، فإن الاضطراب الأخير في في سلاسل التوريد الناجم عن جائحة COVID-19 على الرغم من أنه كشف نقاط الضعف في الحاويات، إلا أنه أدى في نهاية المطاف إلى تصحيح السوق. وبالتالي فإن مثل هذه الحلقات التاريخية تعتبر بمثابة دليل واضح على قدرة الصناعة على مواجهة العواصف وإيجاد مسارات جديدة للنجاح.

الهيمنة على السوق
ولفت Stopford إلى أهمية السوق في قطاع النقل البحري، بحيث تتبع تطور الناقلات النفطية العملاقة في فترة الستينات والسبعينات إلى بدء القطاع النفطي في استخدام مصافي التكرير الأكبر حجمًا، حيث أن شركات النفط هي من قامت ببناء أنظمة عمليات نقل النفط، مما سهل توسعها من الأسواق المحلية نحو محطات التكرير المركزية. ومن هنا كان بناء ناقلات نفط الخام العملاقة VLCC.

وفي الإطار نفسه، كشفت السوق أيضًا عن القيود التي وضعت على هذه السفن الكبيرة عندما تغيرت ممارسات تجارة النفط في فترة الثمانينيات. كما ذكر Stopford أن التجار قد فضلوا استخدام ناقلات النفط الخام العملاقة VLCC بسعة 2 مليون برميلا فقط بدلًا من تلك الناقلات الكبيرة جدا  ULCCوالتي تصل سعتها إلى 4 ملايين برميل.

وعليه، يسلط ذلك الضوء على قدرة التنظيم الذاتية للسوق وإيجاد الحلول المثلى للتأقلم وتخطي الاضطرابات، وبالنظر إلى هذه التطورات، أعرب Stopford عن كامل ثقته في قدرة القطاع البحري على التكيف مع التحديات التي يمكن أن تواجهه.

 

اقرأ أيضاً

 العدد 91 من مجلة ربان السفينة

(May/ June 2024)

 

أخبار ذات صلة