يشكل القطاع اللوجستي أحد المحركات الرئيسة للتنويع الاقتصادي في سلطنة عُمان؛ لما يمتلكه من مقومات استراتيجية تتمثل في الموقع الجغرافي، والموانئ العميقة الحديثة، وشبكات النقل المتكاملة. وقد أولت سلطنة عمان هذا القطاع أولوية ضمن مستهدفات رؤية عُمان 2040؛ إدراكًا لدوره في تعزيز مكانتنا كمركز إقليمي للتجارة والعبور. وفي هذا الحوار سلطت هند اليعقوبية الضوء على أبرز ملامح المشهد اللوجستي العُماني، وما يقدمه من فرص استثمارية، إلى جانب التحديات القائمة، وسبل تجاوزها.
موقع سلطنة عمان في التجارة العالمية
وأكدت هند هويشل اليعقوبية محاضرة في إدارة الخدمات اللوجستية والنقل بكلية عمان البحرية الدولية بالجامعة الوطنية أن موقع سلطنة عمان يلعب دوراً محورياً في قلب العمليات اللوجستية حول العالم؛ حيث يربط الشرق بالغرب، ويعد من أبرز المواقع أماناً في المنطقة موضحةً أن هذا الموقع يمنح السفن فرصة للإمداد، واستكمال رحلاتها بسهولة بعيداً عن الكثير من المعوقات، خصوصاً في ظل الاضطرابات التي تشهدها المنطقة في الفترة الراهنة. وأضافت أن الموانئ العمانية تتميز بكونها خارج ازدحام الخليج، وهو ما تبرزه مواقع الموانئ الرسمية في صلالة وصحار؛ حيث يعد ميناء صلالة من أكثر موانئ الحاويات كفاءة على مستوى العالم.
وأوضحت اليعقوبية أن البنية التحتية اللوجستية في سلطنة عمان تمتلك مميزات عديدة أبرزها الموانئ ذات المياه العميقة القادرة على استيعاب أكبر السفن في العالم كالتي استقبلها ميناء صحار سابقاً. وأشارت أيضاً إلى مطار مسقط الدولي الذي يستوعب حركة شحن كبيرة للبضائع والركاب، كما لفتت إلى دور التكنولوجيا الحديثة مثل النافذة الواحدة في نظام "بيان" الذي يوفر الكثير من والوقت والجهد في التخليص الجمركي، والتوجه المتسارع نحو إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في الخدمات اللوجستية.
وبيّنت أن القطاع اللوجستي يمثل محوراً أساسياً في التنويع الاقتصادي للسلطنة؛ إذ يسهم في تعزيز النقل والشحن وتنوع حركة البضائع والركاب، وهو ما يرفع من حجم الإنتاج، ويثري مجالات التجارة والسياحة. كما يساهم في خلق فرص وظيفية متنوعة في الكثير من القطاعات، ويدعم تحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040، إلى جانب ترسيخ العلاقات التجارية والدولية.
وأشارت اليعقوبية من وجهة نظر أكاديمية إلى أن من أبرز التحديات التي يواجهها القطاع هي التنافسية مع الموانئ الإقليمية، والتي تشكل ركيزة أساسية لكثير من السفن التجارية؛ حيث تلعب عناصر الوقت والتكلفة لإتمام عمليات الشحن والمناولة من الميناء وإليه دوراً كبيراً في تفضيل السفن لوجهات معينة، وأضافت أن الاضطرابات السياسية والجغرافية في المنطقة، خاصة في البحر الأحمر تؤثر على حركة الترانزيت في ميناء صلالة، وتؤدي إلى انخفاض النشاط الملاحي.
وعما إذا كان هناك قصور في الكفاءات البشرية المتخصصة في الخدمات اللوجستية أوضحت اليعقوبية أنه لا يمكن وصف الأمر بوجود قصور في الكفاءات البشرية بقدر ما هو حاجة لمواءمة أفضل بين المهارات المطلوبة وسوق العمل، وذلك عبر تكثيف التدريب العملي وتطوير المهارات التحليلية والرقمية، لكنها رأت أن هناك فجوة واضحة بين مخرجات التعليم والتقنيات الحديثة المتواجدة في سوق العمل؛ حيث تفتقر البرامج الجامعية إلى التطبيق العملي المواكب للتطورات في رقمنة سلاسل الإمداد مثل تحليل البيانات وأتمتة المستودعات باستخدام الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء كجزء من المقررات الدراسية.
التكامل بين الموانئ والمطارات والمناطق الحرة
وأكدت اليعقوبية أن هناك تكاملاً واضحاً بين الموانئ والمطارات والمناطق الحرة؛ حيث تشكل مثلث قوي في المناطق التي توجد بها (صحار، صلالة، الدقم) من خلال ارتباط العمليات ببعضها سوى كانت في الموانئ البحرية أو البرية (ميناء خزائن الجاف)؛ كلها ترتبط بنظام جمركي وشبكات طرق تساعد في تنظيم وربط جميع العمليات اللوجستية بسهولة وفعالية.
وذكرت أن سلطنة عمان جاءت وفق مؤشر الأداء اللوجستي 2023 في المرتبة 43 عالمياً من أصل 139 دولة، وهو ما يعكس التقدم في تنفيذ الاستراتيجية اللوجستية والجهود المبذولة في القطاع لرفع كفاءة المنافذ، وتسهيل الإجراءات، وتعزيز التكامل، وتنمية المهارات، ما يجعلنا نعتمد على القطاع اللوجستي مصدر دخل لسلطنة عمان بجانب القطاعات الأخرى بالإضافة إلى تسهيل حركة التجارة، والترويج للاستثمار.
وأشادت اليعقوبية بالجهود الحكومية لجعل سلطنة عمان مركزا لوجستيا إقليميا مشيرة إلى أن ميناء صلالة أصبح ثاني أكثر الموانئ كفاءة في العالم وفق البنك الدولي. وأضافت أن الحكومة تركز على المناطق الاقتصادية الخاصة والحرة، وتفعيل دورها؛ لرفع الاقتصاد، وتشجيع الاستثمار فيها كما هو ملاحظ في الدقم، وتشغيل موسع لميناء صحار والموانئ الأخرى الصغيرة والمطارات، وعلى رأسها مطار مسقط الدولي، ما يعكس رغبة جادة من قبل الحكومة لدعم ورفع مستوى القطاع اللوجستي والنهوض به.
جذب الاستثمارات النوعية
وفيما يتعلق بجذب الاستثمارات النوعية في القطاع اللوجستي العماني؛ أوضحت أن ذلك يتطلب تسريع مشاريع الربط البري (مثل شبكات القطارات)، وتطوير خدمات لوجستية ذات قيمة مضافة مثل: السلاسل الغذائية المبردة، وخدمات النقل المتقدم (3PL/4PL)، وتوسيع مهارات القوى العاملة الرقمية والتكنولوجيا. ونبهت في الوقت ذاته إلى أن الحوافز الضريبية والتنظيمية في سلطنة عمان تظل عاملاً مشجعاً للاستثمار.
وأكدت اليعقوبية أن القطاع اللوجستي هو المحرك الأساسي لبقية القطاعات؛ فميناء صحار يعزز الصناعات البتروكيماوية والفولاذ بالإضافة إلى الاستثمارات الصناعية في العديد من المناطق الحرة والخاصة في سلطنة عمان بينما تدعم مدينة خزائن المنتجات الزراعية عبر المخازن المبردة والأسواق المركزية. وميناء صلالة يسهم في تصدير وازدياد حجم الشحنات لمنتجات التعدين مثل الجبس. وأضافت اليعقوبية أن مشروع "حفيت ريل" سيحدث نقلة نوعية من خلال خفض التكاليف الزمنية والمادية للنقل البري، وتحسين كفاءة سلسلة التوريد، وزيادة حجم تدفق البضائع والتجارة، وتحقيق نمو في القطاع الصناعي والتجاري والذي سيعزز بدوره التنافسية الإقليمية، ويخلق فرص عمل جديدة.
وأكدت أن المقومات الأساسية لتحويل سلطنة عمان إلى محور ترانزيت موجودة، بدءاً من الموقع الجغرافي خارج مضيق هرمز، مروراً بكفاءة الموانئ، والمناطق الحرة التنافسية، وصولاً إلى مشروع القطار. لكنها شددت على أن التحدي يكمن في حجم التدفقات الحالية، ومستوى الربط الداخلي، ما يتطلب تسريع تنفيذ السكك الحديدية، ودعم الربط الجمركي والبري؛ لتحقيق قيمة مضافة أكبر من حركة الترانزيت.
دور التكنولوجيا
ولفتت اليعقوبية إلى دور التكنولوجيا وأهميتها في رفع كفاءة القطاع موضحة أنها تتيح التنبؤ بالطلب، وتحسن المسارات، وتساعد في رقمنة المستودعات، وتطوير بوابات الموانئ مؤكدةً أن المنصات الرقمية اللوجستية يمكن أن تسهم في تحسين التتبع والبيانات، وتقليل وقت الانتظار. ورأت أن زيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي تتطلب تسريع التحول الرقمي في الموانئ والجمارك عبر الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تطوير المطارات، خصوصاً مطار صحار الذي يمكن أن يلعب دوراً محورياً في دعم سلاسل الإمداد للأغذية والأدوية.
وشددت هند اليعقوبية على ضرورة إنشاء مراكز تدريب وطنية متخصصة؛ لتقليص الفجوة بين التعليم النظري والتدريب العملي مؤكدة أهمية تعزيز الشراكة بين الجامعات والقطاع اللوجستي عبر وحدات دراسية مشتركة، ومختبرات محاكاة للموانئ والمطارات، ودعم الشركات الناشئة، وبرامج تدريب عملي للطلاب مع حوافز مالية بما يعزز اندماجهم في سوق العمل، واكتساب الخبرة.
المصدر: جريدة عمان