تقف على متن سفينة في عرض البحر مرتدية زي ضابط بحري، وتتكلم اللغة العربية. قد يبدو الأمر غير مألوف بعد في مجتمعاتنا، التي ما زالت تنظر إلى هذه المهن البحرية على أنها حكر على الرجال وحدهم ولا علاقة للنساء بها. هناك من قررن كسر العقلية المنغلقة ودخول هذه المهنة المتعبة، ولكن الأمر ما زال حتى اليوم عبارة عن تجارب فردية في عدة دول عربية.

تحدثنا ريم الردان وهي أول ضابط نوبة ملاحية أنثى على متن سفينة صيد أطول من 24 مترا، أنها عملت كثيرا كي تثبت جدارتها، وسط عدد كبير من الزملاء الذكور الذي كانوا يستغربون وجودها هي وزميلتها بينهم، ويظنون أنها ستمضي يومين ثم تتعب من دوار البحر، لكنها كانت مصرة على حلمها ودراستها التي أتمتها بجدارة، وتمكنت من إثبات نفسها وما زالت في عملها منذ ثلاث سنوات.

تخرجت ريم من كلية تكنولوجيا المصايد والاستزراع المائي في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، ونالت درجة امتياز مع مرتبة شرف بحصولها على المركز الثالث في دفعتها. وعن سبب دخولها هذه الكلية أوضحت أنها بعد الثانوية العامة كانت تسعى إلى شيء مختلف وغير مألوف ولم ترغب بدخول كلية الصيدلة كما أرادت لها عائلتها.

واكتشفت حبها للبحر، فقررت التوجه إلى كلية النقل البحري التي تخرج قباطنة وضباط على المراكب التجارية، وكان قدوتها القبطان مروى السلحدار وجمانة الخولي. وبعد اطلاعها على أقسام هذه الكلية اختارت قسم الصيد وهو قسم جديد لم تتخرج منه أي دفعة حينها.

بعد التخرج، تدربت ريم على متن مركب صيد، ثم دخلت الحتميات وحصلت على جواز سفر، وبذلك كانت هي وزميلة لها أول فتاتين تحصلان على جواز سفر بحري للصيد. وفي هذه المرحلة رشحهما رئيس الأكاديمية للإنضمام إلى الشركة الوطنية للثروة والملاحة المائية، وهي الشركة المصرية الوحيدة التي تضم مراكب سفن تفوق 24 متر.

تعتبر هذه الشركة تابعة للقوات المسلحة، وهو أمر يعزز فكرة ذكورية هذا المجال.تعمل ريم منذ عام 2021 على متن سفينة مختصة بصيد سمك التونا، وهو مركب من فئة 34 متر مجهز بالكامل. وعن طبيعة عملها، تقول ريم أن السفينة تصطاد لمدة شهر تقريبا في عمق البحر، وتقوم بقية السنة بصيد السمك السطحي من خلال مهمات مدتها أسبوع أو عشرة أيام. بحسب ما ترويه، تعتقد ريم أن ما ساعد دخولها المجال المهني هو أن الشركة حكومية، وأن مصر تعمد إلى تمكين المرأة في المجال البحري، وبالتالي فقد أرغم هذا التوجه من كان يرفض تقبل الفتيات على تقبلهن مضطرا.

"العمل في البحر ليس بالأمر السهل، كما أن غالبية ملاك السفن لا يميلون لتعيين الفتيات على السفن، ولكنني استفدت من تشجيع أسرتي والمحيطين بي، ولا أعتقد أن عملي يمكن أن يؤثر على حياتي العائلية." هذا ما تحدثنا عنه ريم التي تستعد للزواج خلال أشهر، وتفتخر بتشجيع خطيبها الذي يحثها على الاستمرار بالعمل، خاصة وأنه في الأكاديمية نفسها التي تخرجت منها، ويحترم رغبتها واهتماماتها.

إحصائيات وأرقام
لا يقتصر ضعف مشاركة النساء في القطاع البحري على المجتمع العربي، فهي ظاهرة تقريبا شبه عامة رغم الاهتمام الدولي بدمج النساء في هذا القطاع. بحسب المنظمة البحرية الدولية، فإن النساء يمثلن حاليا 2% فقط من 1.5 مليون بحار في العالم، ولكن في المقابل زاد عدد البحارة الإناث الحاصلات على شهادات صادرة بموجب الاتفاقية الدولية لمعايير التدريب وإصدار الشهادات والنوبة للبحارة (STCW)، وتضاعف خلال خمس سنوات ليصل إلى 24،059 في جميع أنحاء العالم، وفقا لتقرير قوة عمل البحارة.

أول عربية
نتحدث عن صعوبات تواجهها النساء لدخول مجال البحر في عامنا هذا، فكيف كان الحال قبل عدة عقود، وتحديدا في تسعينيات القرن الماضي؟

دخلت القبطان فاتن ترجمان هذه التجربة كأول شابة عربية تقود السفن وتتنقل بين الموانئ العربية والأجنبية، وكانت أول امرأة في العالم تتولى مهمة مرشدة بحرية بالإضافة إلى اختصاصها في قيادة السفن.

دخول ترجمان في هذا المجال لم يكن صدفة، فهي عاشقة للبحر منذ طفولتها، خاصة وأن والدها كان بحارا وقبطانا، وكانت تصحبه في أكثر رحلاته وعملت في مجال الملاحة، لهذا درست ملاحة بحرية في طرطوس، وخضعت للتأهيل الأكاديمي في المعهد العالي التخصصي في مصر ونالت شهادة ربّان منذ العام 1990، ثم انتقلت إلى العمل على سفينة والدها التي تربت عليها منذ عمر الأربع سنوات، والتي أطلق عليها اسم "فاتن."

عملت ترجمان على متن جميع أنواع السفن التجارية والخدماتية، وكانت البداية من ميناء طرطوس واللاذقية، ثمّ اتسع نطاق عملها ليشمل موانئ البحر المتوسط والأسود والخليج العربي حتى المحيط الهندي. وفي هذا الإطار تقول: "لم يكن لطموحي حدودا وما زلت أحلم منذ عشرين سنة لي في البحر حتى الآن، بأن أجوب العالم بحثا عن المعرفة والشغف، فالإنسان متى توقف عن المعرفة توقف عن الحياة."

وتكمل قائلة: "للبحر سحر خاص وهو يعني لرواده التحدي والمغامرة والمخاطرة في بعض الأوقات، وتحمّل أمواجه والمسؤولية الكبرى التي تلقيها على عاتقنا، خاصة إذا كانت السفن تقلّ ركّابا. ففي بعض الرحلات يسهر الربان ثلاث ليال متواصلة في عرض البحر؛ وهو ما يسبب له التعب النفسي والجسدي. أما أنا كامرأة، فقد استطعت أن أتعلم مقاومة تحديات الحياة كمقاومتي لأمواجه وإرساء سفينتي في المكان الذي أختاره أنا. البحر حرّ وأنا ابنة الساحل السوري، حرة أبّا عن جدّ."

وتذكر ترجمان أن وصولها إلى مهنة قبطان والعمل في مهنة يراها المجتمع حكرا على الرجال لم يكن سهلا، لكنها تدين الفضل بذلك لوالدها القبطان إسماعيل ترجمان الذي شجعها على خيارها ودعمها، في الوقت الذي لم يتقبل فيه البعض فكرة أن تقود امرأة السفن الكبرى معتبرين ذلك تعديا على العادات والتقاليد.

ومن الجزائر، تحدثنا الشابة منية بلحاج الطاهر التي تعيش في وهران وهي منطقة ساحلية، عن شغفها بالسفن التي كانت تراها من بعيد، والتي كانت تحلم بالصعود إليها والتعرف على عوالمها الغريبة.

بعد الثانوية العامة التحقت منية بكلية الهندسة الميكانيكية عام 2012 حيث درست لمدة عامين، بعدها انتقلت إلى المدرسة الوطنية العليا البحرية وتخرجت في عام 2017، وحصلت على شهادة مهندس ميكانيك بحري. وتذكر أن خلال دراستها شاركتها فتاتان فقط مقابل 25 شابا. أما دافعها وراء دخول هذا المجال فهو الرغبة في تعزيز حضور المرأة فيه، خاصة وأن المرأة أثبتت حضورها في كثير من القطاعات فلا شيء يمنعها من دخول البحر وقيادة السفن، فالأمر كان، بحسب منية، حلما وتحديا.

اقرأ أيضاً:نساء في العالم البحري يعرضن المطالب الملحة لتعزيز دور المرأة في هذه الصناعة الذكورية

لا تنكر منية الصعوبات التي واجهتها في البداية، إذ تعامل معها الذكور بعدم جدية وظنوا أنها أتت لتمضية الوقت، كما أنهم كانوا حذرين معها ظنا منهم أنها ستسبب لهم مشاكل في المستقبل، إلا أن إصرارها على العمل دفع الجميع للاقتناع بتجربتها واحترامها والتعامل معها بجدية.

وفي ما يخص الحياة الشخصية للفتاة العاملة بالبحر، تؤكد منية أنه يجب عليها العناية باختيار شريك يتفهم طبيعة عملها، فعمل البحر ليس سهلا وفيه غياب لأيام عديدة، فهي مثلا تغيب عن منزلها حوالي 3 أشهر مقابل 3 أشهر فترة إجازة.
برأيها، أهم الصعوبات التي تواجه المرأة العربية هي عدم حماس أصحاب السفن لعمل النساء على السفن، كما يوجد تمييز بين الجنسين من حيث الفرص والتدريب، فضلا عن الرفض المجتمعي لهذه المهنة. برأيها، يجب تغيير هذه النظرة الأمر الذي يحتاج تعزيز المساواة بين الجنسين ورفع الوعي حول الدور الذي تمارسه المرأة في هذا المجال.

سوسن مصطفى، مصرية الجنسية، لها تجربة مختلفة، فهي تعتبر أول ضابط ثان أنثى على متن سفينة مالكها سوري. أنهت دراستها  لنيل درجة ضابط ثان في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا البحرية، وتؤكد انها لم تواجه اي صعوبة في عملها وسط طاقم كامل من الذكور الذين عاملوها كأسرة، ومع ذلك تؤكد ان نظرة المجتمع ما زالت قاصرة تجاه عمل المرأة في البحر واحيانا تكون نظرة سلبية

يوم خاص بالمرأة
أمام هذه الأمثلة لسيدات في المهن البحرية، نشهد دعم المنظمة البحرية الدولية لهذا التوجه، وتشجيع المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة من خلال مبادرات مختلفة مثل: الزمالات الخاصة بالنوع الاجتماعي؛ وتسهيل الوصول إلى تدريب تقني رفيع المستوى للنساء في القطاع البحري في البلدان النامية؛ من خلال تهيئة البيئة التي يتم فيها تحديد النساء واختيارهن لفرص التطوير الوظيفي في الإدارات البحرية والموانئ ومعاهد التدريب البحري، ومن خلال تسهيل إنشاء النساء المهنيات في الجمعيات البحرية، ولا سيما في البلدان النامية.ودعمت المنظمة البحرية الدولية ايضا إنشاء سبع رابطات إقليمية للنساء في القطاع البحري عبر أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وجزر المحيط الهادئ.

في 18 مايو 2022، أحتفل القطاع البحري لأول مرة باليوم الدولي للمرأة في المجال البحري، بهدف تعزيز توظيف النساء في القطاع البحري، ورفع مكانة المرأة في هذا المجال، وتعزيز التزام المنظمة البحرية الدولية بالهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (المساواة بين الجنسين) ودعم العمل لمعالجة الاختلال الحالي في التوازن بين الجنسين في المجال البحري. كما دعمت المنظمة البحرية الدولية تمكين المرأة من خلال المنح الدراسية الخاصة بالجنسين، عن طريق تسهيل الوصول إلى التدريب التقني الرفيع المستوى للنساء في القطاع البحري في البلدان النامية.

بقلم إياد خليل – مودة بحاح

مجلة ربان السفينة، العدد 90، مارس/ أبريل 2024،موضوع خاص، ص. 44

 

اقرأ أيضاً

 العدد 90 من مجلة ربان السفينة

(Mar./April 2024)

 

أخبار ذات صلة